صوت المآذن الذي يملأ الأفق الفسيح، قرص الشمس الذي يذوب ويختفي بعيداً، في زاوية لامرئية كقطعة البسكويت في كوبٍ من الشاي المنعنع، صوت المدفع الذي يضرب في السلم، ليتحلق بإطلاقه الأفراد، يتلاحمون في وتيرة خاشعة، دوائر بشرية تُحيطها دوائر الإنتظار والترقب حول سُفر الطعام، الألسنة التي تتضرع بالدعاء راجية الغفران، بيوت الله التي يجتهد القاصي والداني على زيارتها، الخيم الرمضانية التي تُشيد خصيصاً لإفطار الصائمين، هامات التسامح والتلاحم الإنساني التي تلوح بتجلٍ مع قدوم الهلال تكون في أجلها، في تلك اللحظات التي يُسمع فيها هذا الصوت.. الله أكبر .. الله أكبر.. يُكسر الصيام وتُغسل معه الذنوب والخطايا، حبات التمر تختفي حبة وراء حبة بعد أن تتخاطفها الأيادي، أكواب الماء تتبادل بين هذا وذاك، أطباق عامرة من الوجبات الشهية المتكاملة، الشوربة الطبق الذي يتوق الجميع لإلتهامه لآخر قطرة، يروي العطش ويُشبع صبر المعدةِ الجائعة، فرض الصلاة والأحاديث العائلية الحميمة، حول فناجين القهوة التي تدور بروائح الزعفران والهال والبن الهرري لتضبط أوتار الدماغ وتحث نشاطه. المائدة التي تنزل في هذا الشهر الفضيل لا تشبه مائدة اُخرى، تُخفي في كواليسها الكثير من المرح والضحك والإجتهاد، كثيراً من الجهد ولُهاث الصائمين، تحضيرها يضم المساهمين من العائلة إن لم يكن معظمهم، في لف وحشو وطهو طبق السمبوسة الذي تشتهر به السُفرة الرمضانية، أقراص الخمير المزينة بحبة البركة، دوائر اللقيمات المُقرمشة التي تتراقص في أطباق التقديم تحت لحافٍ لامع من العسل أو الدبس، الهريس التي يُزين حضورها الأمعاء الخالية فتُشبع وتُغني كل خواء. فوانيس صغيرة مضيئة تتفرق بين أنحاء المنزل مُعلنة وجود رمضان بيننا، صوت المذياع يصدح من حُقبة ماضية ” رمضان جانا وفرحنا به .. بعد غيابه وبقاله زمان .. غنوا وقولوا شهر بطوله.. أهلاً رمضان”، شكل الهلال الذي نتفنن برسمه على دفاترنا للإعلان عن حضوره، فوازير رمضان التي تُعرض قرابة الثامنة، تجمعنا ونحن نتلاقط أنفاسنا بحركات الفنانة الإستعراضية الرشيقة وأزياءها الملونة المبُهرة، تتمايل بخفة ونشاط مع ألحان مازالت تسكن الذاكرة “شهر يسلم شهر .. لما وصلنا لأجمل شهر”، مازلت اتذكر همة جدي العظيمة -غفرالله له- وهو يجمعنا ويحثنا جميعاً لتأدية صلاة التروايح والوتر، نتحد في صفوفنا ونحن نرتدي أثواب الصلاة الطويلة، نحاول الإنضباط في تأدية الصلاة بالرغم من سننا اليافعة، نتضاحك فيما بيننا، ونواصل ركوعنا وسجودنا دون أن ندرك بأن لحظات كهذة ستأخذ موقعاً لايُمحى من الذاكرة، نتراكض في أنحاء المنزل فرحين بإنجازنا الصلوات الطويلة، فيما توضع صواني الحلويات بشتى أنواعها، نتلهف على تفحص ألوانها المتعددة وأشكالها المُتقنة، يتأخر بنا موعد النوم دون أن نُعاقب، نجتمع حول طاولات التسلية مثل المونوبلي والكيرم و أوراق اللعب، نشرب شراب التوت المركز المغمور بقطع الثلج، يترك أثره على شفاهنا العُليا كخط شارب، يتباهى كل منا بطول شاربه فيما البهجة والطمأنينة تعانق أرواحنا الصغيرة، كل ذلك حتى عام 2004 حين وافت المنية والدنا القائد العظيم المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، كان رحيله إبتلاءاً عظيماً عصف بقلوب أبناء شعبه ومحبيه حول العالم، لكنه اليوم ذكرى نُجدد عهودها في الشهر الفضيل بالدعاء المتواصل له وللتذكير بمسيرته التي نحمل مسؤولية تحقيقها وإستمرارها جاهدين. رمضان هو ليس مجرد شهر، هو مساحة لكل فردٍ منا لتجديد طاقاته الروحانية، هو منحة ربانية تُفتح على مصرعيها، بأبواب واسعة لامتناهية من التوبة والرحمة والعطايا والهبات، يمنحنا الفرصة لطرقها وقرعها والتعلق بأستارها، رمضان حالة من المناجاة والرجاء والتطهر، فرصة تتجدد كل عام لنكون النسخة الأفضل من أنفسنا في كل عام.
رمضان كريم.
*نشر بتصرف على موقع العين الإخبارية:
https://al-ain.com/article/ramadan-tradition-spiritual
الوسم: مقال
جائــحة كورونــا
من عجائب زمن الكورونا أن لا نتعلم من تجربة معايشة تفشي وباء البلاء “كورونا”! أن لا نجد في حبسنا الإحترازي الآمن بين حيطان منازلنا وأفراد عائلاتنا، جذوراً لفطرتنا الأصلية السليمة ومرجعية لعروق إنسانيتنا النبيلة، أن نتوه في وحدتنا وإنفصالنا، فنبالغ تمالكنا بالظهور الكاذب عبر وسائل التواصل الإجتماعي، ندعي عبره تلاحمنا الاُسري، نُفبرك مفاهيم جديدة للطاقة الإيجابية، ونواصل مسيرتنا السباقة في عوالم الكذب الأبيض والنفاق الإجتماعي، نبيع الكلمات المُسكرة والملامح المُغلفة بطعم الخداع الرخيص والمثالية الزائفة!
فايروس كوفيد-19 ليس بالجائحة الحقيقية، لكن ما يحدث في نفوسنا من جحود وإنكار لإصولنا الإنسانية وتراكيبنا الفطرية، هو تكذيب لسبب خلقنا ووجودنا، هو الجائحة التي لا يمكن لمخلوق على الأرض محاربتها أو منع تفشيها بيننا لأنها بكل بساطة قد تفشت وانتشرت وصارت جزءاً منّا، تشاركنا صحونا ومنامنا. خلع الإنسان عن نفسه لباس إنسانيته وبدلاً عن أن نكون شعوباً وقبائل لنتعارف ونعمر الأرض بالمحبة والسلام، أصبحنا نتقاتل ونتصارع كالوحوش والدواب على مسميات الجاه والسلطة والمناصب، الجشع صار العيون التي بها نسمع والأيادي التي بها نبطش، أعمت المطالب الواهمة قلوبنا ولوثت أسماعنا وحواسنا، حتى أضحينا نُقلب أجسادنا الخاوية على المنصات الإلكترونية، كالسلع البخسة التي يخشى صاحبها بوارها وإنعدام قيمتها في السوق. للأسف جائحة كورونا لم تُلقنا الدروس كما ينبغي هي فقط منحت الطبيعة والحيوانات فرصة للإحتفاء بخلو الأرض من العنصر البشري، إزدادت مساحات الاكسجين في الهواء، وتوسعت البقع الخضراء من حولنا، تكثف المشهد الحيواني على بقع متنوعة من العالم، وأخيراً مُنحت الأرض الراحة “إجازة” من فساد الآدميين! السماء راحت تغمر الكرة الأرضية بأمطارها الناعمة وكأنها تعطرها وتُزيح عنها بقايا آثامنا البشرية، تُداعب الأرض وتُهنيها بإنقراضنا وتقلص ظهورنا على نواحيها.
لماذا لا نمنح أنفسنا لحظة أخيرة لإستيعاب التغير الذي تُخلفه كورونا وراءها، كورونا عاصفة صحية وإقتصادية قد تُعيد تنظيم حيواتنا للأبد، هي قد ترسم لنا مسارات جديدة لم ترد علينا مُسبقاً، هي إنتفاضة تُخبرنا بأن التغيير قادم بأن المُتغيرات قد تكون شيئاً لم نستعد له، ازمة لم تخطر على البال! لنمنح أنفسنا في هذة الفترة من البُعد الإجتماعي المساحة الكافية للتأمل في أحوالنا الحالية والأحوال المحيطة بنا! لنعيد ترتيب دفاترنا ونُلغي من شريط يومياتنا مايجب علينا تركه، لنأخذ من علاقاتنا وأمورنا اليومية ما نستطيع إعادته، لنتعلم بأن نأخذ بذات القدر الذي نُعطيه. لماذا نكون الجائحة المميتة ياتُرى إن كنا نستطيع أن نكون علاجاً ودواءاً!
كونوا خلفاء في الأرض واعمروا قلوبكم ومنازلكم بحُسن الظن وفعل الخير، افيضوا بالإستغفار والدعاء الصادق، ودعوا الأجر والثواب لمن هو أعلم بما يقسمه من أرزاق وعطايا ورحمات.كونوا بخير وظلوا آمنين في بيوتكم.
اللهم بلغنا رمضان ونحن في أفضل حال، لا فاقدين ولا مفقودين.
تهاني الهاشمي
إقتصاد العلاقات
العلاقات هي أصعب وأبسط الأمور التي نعيشها في يومياتنا، هي أشبه بركوب الموج المُتقلب، فبقدر حاجتك للمرح والمغامرة التي يمنحك إياها إلا انه قد يهزمك في لحظة بعد أن يتمكن منك ويكسب ثقتك الكاملة بنفسك تجاهه، يُغافلك في حين غرة، يُحطم ألواحك الناصعة، يستغلها بدهاء لصالحه، ويبتلعك في غمضة عين كأنك لم تكن! هكذا هي علاقاتنا، قد تبدو في مرات مرنة ومريحة للعلن لكنها في داخلها مليئة بالتعقيدات والتشعبات، نحملها معنا بكل ذكرياتها اللطيفة وأوجاعها السقيمة عبر الوقت والأزمات، لكننا قد نتوقف في لحظة ما ونرفضها جملة وتفصيلاً، قد تنهار مباني علاقاتنا العظيمة في نقطة ما، الفشل والخذلان والجفاء والإهمال كلها معاويل هدم تأخذ جماليات مشاعرنا وإرتباطتنا لتهوي بها في مقبرة مظلمة تترك أثرها الأسود اللعين في الذاكرة. لابد وأن الكثير منا قد مرت به تجارب مريرة، وقف به الزمن معها عند موضع الألم، الألم الذي يُخلفه الهجر أو إنقطاع أحبال الثقة والمحبة، هذا الألم الذي يبدأ كنقطة صغيرة تستمر بالتدحرج بداخلك في كل لحظة خذلان أو هزيمة عاطفية أو مخاصمة طائشة، حتى يغدو بقعةً كبيرة تُجيد الإختباء بين خباياك فتكون وحشاً ثائراً إذا ما وجد طريقه للخروج!
مؤلم جداً أن تُحب فتواجهك الخيانة، أن تَصْدُق معهم فيُشككون في طُهرك، أن تمنح وتُعطي من جود ماعندك فلا تأخذ إلا اللوم والعتاب، أن تُحفز وتدفع وأن يصادفك التراب الذي يمحو وجودك، مؤلم أن تجعلهم عائلتك وأن تكون بالنسبة لهم “ولا شيء!”.. لكن الأجمل من كل هذا أن تتعلم كيف تتعامل مع ألمك وتجعل منه درساً مُفيداً لتجاربك القادمة، وتذكر دائماً أنه في سوق العلاقات، يوقِعون بالتجار الشُطار! ويتعاملون بقاعدة: لا نشتري إلا من يشترينا ولا نبيع إلا من يبيعنا، فنحن وحدنا من يُحدد الأثمان إن أجدنا لعبة الأرقام.
تك تك.. يا أم سليمان!
الوقت هو الصديق الوحيد الذي يلتصق بك رغماً عنك، من الصعب جداً أن تثق به ومن الأصعب أن تعتبره فرداً من العائلة، هو الخانة التي تخدعنا بمظهرها الفارغ، هو العقارب التي تتلاعب بنا في أوقات إنتظارنا وإستعجالنا، هو العامل الذكي الذي يُسيطر عليك في لحظات حاسمة من حياتك، فتُربكك حركاته بين البطء والسرعة، بين الإكتراث وعدمه، بين عنصر التشويق الذي لا تتحمله أعصابك طويلاً وعنصر آخر يسحلك سحلاً في ملل يجرفك إلى حافة الموت، الوقت قد يهبك عُمراً جديداً وقد يُجردك من ما تدخره.
يُجيد السيطرة علينا فهو يعرف تماماً نقاط الضعف فينا، يتسلل إلينا عبر ساعاتنا الثمينة التي نجتهد في تلميعها دون أن نفكر في الثروة الحقيقية التي تكمن في حركة عقاربه المطيعة، تك .. تك.. هو وقت تستقطعه من تاريخك الذي تعتقد بأنك وحدك من يصنعه، تك.. تك.. ترصد المساحات الضائعة التي لا تُفلح في إستغلالها من أيامك، تك.. تك.. تقيس حجم اليوم في ذاكرتك بأفراحك وأتراحك، هي ليست مجرد حركة أو حتى صوت نعتاده، هو صديق نألف صحبته ونعتاده حتى ننسى وجوده! إن كان لابد للإنسان أن يخاف من شئ ما، فهو الوقت لأنه ألد الأعداء وأصدقهم، وحده يستطيع كشف الحقائق ومسح الجراح وتطبيبها، هو عالم أبيض تتصادم فيه التروس وتتفارق، تتلاقى فيه العقارب وتتراقص، تشتعل النيران الضروس بين ضلوعه وتخمد وتتلاشى، تذوب بين طياته الغيمات وتبتسم، هو الوقت اللص الصديق الذي لا يفارقنا.