تك تك.. يا أم سليمان!

 

 

الوقت هو الصديق الوحيد الذي يلتصق بك رغماً عنك، من الصعب جداً أن تثق به ومن الأصعب أن تعتبره فرداً من العائلة، هو الخانة التي تخدعنا بمظهرها الفارغ، هو العقارب التي تتلاعب بنا في أوقات إنتظارنا وإستعجالنا، هو العامل الذكي الذي يُسيطر عليك في لحظات حاسمة من حياتك، فتُربكك حركاته بين البطء والسرعة، بين الإكتراث وعدمه، بين عنصر التشويق الذي لا تتحمله أعصابك طويلاً وعنصر آخر يسحلك سحلاً في ملل يجرفك إلى حافة الموت، الوقت قد يهبك عُمراً جديداً وقد يُجردك من ما تدخره.

يُجيد السيطرة علينا فهو يعرف تماماً نقاط الضعف فينا، يتسلل إلينا عبر ساعاتنا الثمينة التي نجتهد في تلميعها دون أن نفكر في الثروة الحقيقية التي تكمن في حركة عقاربه المطيعة، تك .. تك.. هو وقت تستقطعه من تاريخك الذي تعتقد بأنك وحدك من يصنعه، تك.. تك.. ترصد المساحات الضائعة التي لا تُفلح في إستغلالها من أيامك، تك.. تك.. تقيس حجم اليوم في ذاكرتك بأفراحك وأتراحك، هي ليست مجرد حركة أو حتى صوت نعتاده، هو صديق نألف صحبته ونعتاده حتى ننسى وجوده! إن كان لابد للإنسان أن يخاف من شئ ما، فهو الوقت لأنه ألد الأعداء وأصدقهم، وحده يستطيع كشف الحقائق ومسح الجراح وتطبيبها، هو عالم أبيض تتصادم فيه التروس وتتفارق، تتلاقى فيه العقارب وتتراقص، تشتعل النيران الضروس بين ضلوعه وتخمد وتتلاشى، تذوب بين طياته الغيمات وتبتسم، هو الوقت اللص الصديق الذي لا يفارقنا.

الجرح أكبر!

 

 

شرارة صغيرة اشتعلت في تلك الليلة التي انتبه هوّ لوجودها، لم تعلم بعد بأنها أثارت فيه مالم يتوقعه، إلتفت له فإبتسمت، تحرك شئٌ ما في داخله، تابعتْ الإبتسام، تأكد من أن هذة الإبتسامة هي ضالته التي طال بحثه عنها، تحولت الشرارة الصغيرة إلى شُعلة لاهبة، راح لهيبها المتراقص يُذيب الحواجز، بل يُلغي ألواج الجليد بينهما. صار يُغني لها كل صباح مفتوناً بصوتها الكسول وضحكاتها المكتومة، شيئاً فشيئاً صار صوته غذاءاً لروحها، وصارت أحاديثها بلسماً لروحه، تعلقا ببعضهما فصارت أرواحهما متلاحمة. فاجئها يوماً باللقاء، شهقتْ غير مُصدقة في اللحظة التي سقط نظرها على هيئته، كان واقفاً أمامها بإبتسامةٍ خجلى وبثقةٍ كاملة بأنه يستطيع أن يرسم على وجهها ملامح الدهشة الفرحة، هيّ حققت له ذلك وأكثر، عزفت روحها على أصابع الشوق واللهفة أغنيةَ حبٍ طاهر، رصدتْ خطواته حولها، صورتْ اللحظة في ذاكرة قلبها وأطبقت أجفانها خوفاً من أن تهرب اللقطة، جفى النوم قلبيهما، وراحا يحلمان بفرصةٍ أكبر.. لكن الرياح المعاكسة اشتدت وكسرت النوافذ، اقتحمت الأمن في ليلةٍ قمراء، نُزعت الستائر و تحطم المصباح السحري الذي يحمل في صدره الشمعة، تلك الشُعلة التي خبأ فيها جُلَّ المشاعر والذكريات، شرخ كبير ألمَ بزجاج المصباح، تصدعت محتوياته وبدا لهما تلفه، نسي هوّ بعض اللحظات بينهما وتذكرت هيّ بعضها الآخر، ابتسمت من جديد وهي تُعيد المقطع الأول بينهما، صرخَ في وجه المرايا وهو يسترجع ما قالته له في لحظة غضب، مرت بينهما أيام، الشرارة بدأت تخبو، إلتهمتها الريح العاتية، اطفئ ضياءها الخراب الذي شتت شمل المشاعر وبددها حتى صارت فراقاً طويلاً، فراق لا لقاء في نهايته. كتب لها على أحد صفحاته الطريق إلى النهاية، لم تقرأ مابين السطور، كانت تحمل قهراً لايحتمل، أعماها السقوط، وانشغلت بالقوة بعد النهوض، خبى الضوء الساطع حتى انتهى وحلت العتمة التي تلبست كل ما طالته من حولها، غفت الأحلام وراحت في سُباتٍ لايُحسب له آخر، فهل يُجمع هذا الرُفات يوماً! إنها غرائبية الحياة هذا ما قاله لها.

توته توته .. خلصت الحدوته..